فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة فصلت:

وتسمى: السجدة نزولها: مكية.. بلا خلاف.
عدد آياتها: أربع وخمسون آية.
عدد كلماتها: سبعمائة وست وتسعون.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون.
مناسبتها لما قبلها:
كان مما ختمت به سورة غافر، قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
ثم جاءت الآيات بعد هذا لتذكّر بآيات اللّه الممثلة في نعمه التي أنعم اللّه بها على عباده من الأنعام.. وتلتها آيات أخرى، تذكر بآيات اللّه فيما أخذ به الظالمين المكذبين من نقم، وقد كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من هؤلاء المشركين، فما أغنى عنهم ذلك من بأس اللّه من شيء، وأنهم حين رأوا بأس اللّه فزعوا إلى الإيمان، ولكن بعد فوات الأوان، فلم يكن ينفعهم إيمانهم هذا.
ثم جاءت سورة فصلت، لتصل هذا الحديث، الذي يذكّر بآيات اللّه، وينذر المكذبين الضالين بعذاب شديد، فتبدأ السورة بذكر القرآن الكريم وما يحمل من آيات بينات، فصّلت بلسان عربى مبين.. فإذا كان المشركون قد عموا عن أن ينظروا في هذه النعم التي بين أيديهم، والتي تتمثل في الأنعام، التي منها ركوبهم، ومنها يأكلون، ثم عموا كذلك عن أن يروا ديار القوم الظالمين، وما نزل بها من نقم، اللّه وأنها قد أصبحت ترابا يمشون عليه، وقد اختلط فيه الآدميون بالحيوان، والنبات، والأثاث- إذا كان المشركون قد عميت أبصارهم عن أن ترى هذه الآيات، أو تلك، فليسمعوا بآذانهم هذه الآيات، التي هي كلمات اللّه إليهم، تدعوهم إليه بلسان عربى مبين، وتكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى ودين الحق.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}.
التفسير:
{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} {حم} مبتدأ، وخبره {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
أي أن {حم} هذه، تنزيل من الرحمن الرحيم، أي هي من كلمات اللّه وآياته.. وفى هذا ردّ على من يقول إن الحروف التي بدئت بها أوائل السور ليست من القرآن، وإنما هي إضافات ألحقت ببعض السور في الدور المكي من نزول القرآن، وقد وضعت على رأس هذه السور، لتدلّ على عدد آياتها، محسوبة بحساب {الجمل} للحروف، الذي كان معروفا للعرب.. فقد كان من تدبير النبي- كما يزعمون في هذا الدور من نزول القرآن أن يضبط عدد آيات السورة، ويقيّدها بهذه الحروف التي توضع على رأسها، حتى لا تختلط بغيرها، وذلك أن عملية كتابة الوحى لم تكن قد انتظمت، ورتب لها كتابها، وأدواتها في هذا الدور المبكّر من نزول القرآن.
وهذا الزعم، باطل من وجوه:
فأولا: أنه إن أخذ به، لا يحقق الغاية التي قيل إنه جاء من أجلها، وهو ضبط عدد آيات السورة.. وذلك أنه ليس كل سور القرآن المكي بدئت هذا البدء بالحروف المقطعة، حتى يمكن حصر كل سورة في العدد الذي تدل عليه هذه الحروف القائمة على رأس كل سورة.. وعلى هذا يمكن إذا سقطت آية أو آيات من السورة التي ضبط عددها أن يستجلب لها ما سقط منها من سورة أخرى من السور التي لم يضبط عددها.. وإذن يكون هذا التدبير، غير محقق للغرض الذي قصد منه.
وثانيا: لو صحّ هذا الزعم بأن تلك الحروف كانت لضبط عدد آيات السور في القرآن المكي- لكان من تمام التدبير أن يشمل ذلك القرآن المكي كله، بل كان أولى به، تلك السور التي كانت أول القرآن نزولا، وهذا غير وارد في القرآن.
وثالثا: إذا صح هذا الزعم أيضا، بالنسبة للقرآن المكي الذي قيل إن عملية كتابة القرآن فيه لم تكن مستكملة، ولا متوفرة الكتاب، ولا أدوات الكتابة- فإنه لا يصح في القرآن المدني، وفيه كثير من السور بدئت بالحروف المقطعة، كسورة البقرة، وآل عمران.. مثلا.
قوله تعالى: {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} بدل كل من كل.. أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون.
وفى قوله تعالى: {مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو اللّه سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم.
وفى قوله تعالى: {كتاب} إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند اللّه كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقّى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون!.
وفى قوله تعالى: {فُصِّلَتْ آياتُهُ} إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه اللّه عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففى هذا الكتاب قطوف دانية من كل علم، وثمار شهية طيبة، مختلفة الألوان والطعوم من كل فن.. وفيه يقول اللّه تعالى {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [9: الإسراء].
ويقول الرسول الكريم: {القرآن مأدبة اللّه فتعلموا من مأدبته}.
إنه مأدبة سماوية، لا ينفد عطاؤها، ولا ينقص ما عليها، مهما كثرت الأيدى المتناولة منها.
وقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} حال من الكتاب، وهى حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربى، أي يقرأ بلسان عربى.
وفى هذا امتنان من اللّه سبحانه وتعالى على الأمة العربية، وتنويه بها، ورحمة من اللّه اختصّت بها، إذ كانت هذه المأدبة ممدودة للعرب في ساحتهم، وكانوا هم أهلها، والداعين إليها.
وفى قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حثّ للأمة العربية، أصحاب هذه المأدبة، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه.
قوله تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً}.
حال أخرى، من هذا الكتاب، تكشف عن موضوعه، بعد أن كشفت الحال الأولى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} عن صفته.. فهو بشير، ونذير، بشير لأهل الإيمان والتقوى، بالفوز برضوان اللّه، والخلود في جنات النعيم، ونذير للكافرين والضالين والمكذبين، نذير لهم بسخط اللّه، والخلود في نار الجحيم.
وقوله تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.
بيان لما تكشّفت عنه الحال من أمر هؤلاء الذين أنزل اللّه سبحانه عليهم هذه الرحمة، ومدّ مائدتها بين أيديهم.. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عنها، وأبى أن يمد يده إليها.. {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إذ قد أصموا آذانهم عن دعوة الداعي، فلم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من خير، وما يمدّ لهم من إحسان.
قوله تعالى: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ}.
الأكنّة: جمع كن، وهو ما يستكنّ فيه ويستتر عن الأعين، والوقر: الصمم.
ومن ضلال هؤلاء الضالين المعرضين عن دعوة الخير التي يدعوهم هذا القرآن إليها، على لسان النبي الكريم- أنهم أحكموا إغلاق الطرق والنوافذ، بينهم وبين هذا الرسول، فلم يدعوا منفذا تنفذ منه كلماته إليهم.
ولقد أحكموا إغلاق قلوبهم حتى إذا سمعت آذانهم شيئا من هذا القرآن- عرضا من غير قصد- لم تنفذ إلى قلوبهم، التي هي موطن الوعى والإدراك، ثم- زيادة في الاحتياط، وحراسة لآذانهم من أن يقع فيها شيء من القرآن عفوا- جعلوا بينهم وبين النبي حجابا، بالبعد عنه، واجتناب أىّ مكان يكون فيه، حتى يأمنوا أن تطرق كلمة من كلماته أسماعهم..!
وقد يبدو- في ظاهر الأمر- أن النظم الذي جاء عليه القرآن في ترتيب هذه المغالق- أنه قد جاء بها على غير الترتيب الطبيعي، الذي يألفه الناس، في التدبير لما يحرصون عليه، ويعملون على صيانته وحراسته، من الآفات، والعوارض التي تعرض له.. حيث يتجه الإنسان أول ما يتجه إلى إقامة سور حول بيته، ثم يتخير في داخل هذا السور المكان الذي يقيم فيه البيت، ثم يتخير من هذا البيت المكان الأمين الذي يحفظ فيه الغالي الثمين، مما يحرص عليه من مال ومتاع..! هكذا يبدو وجه التدبير في مثل هذه الحال.
ولكن القرآن الكريم، بدأ- كما نرى- من حيث انتهى التدبير البشرى.. فتحدث عن القوم بأنهم أحكموا إغلاق ما بداخلهم، قبل أن يحكموا إغلاق المنافذ الخارجية التي يمكن الوصول منها إلى هذا الذي في الداخل:
{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} فما سر هذا؟
السر في هذا- واللّه أعلم- هو أن القوم لم يكونوا مع القرآن الكريم في سعة من أمرهم، وفى فسحة من الوقت للاختيار، والتدبير.
فلقد كان لهم مع القرآن الكريم لقاء من قبل أن يحكموا أمرهم معه، ويلقوه بالتدبير الذي يرونه.. وكانت الكلمات التي سمعوها من القرآن الكريم ذات قوة نفاذة هزت قلوبهم من أقطارها، وكادت تستولى عليهم، وقد وقع كثير منهم تحت سلطانها القوىّ الآسر، وأحس الهزيمة تكاد تنزل به، وتحطم صخرة كبره وعناده.. فكان همه حينئذ أن يمسك قلبه، وأن يدفع عنه هذا الخطر الذي يتهدده.. إن المعركة هنا بينهم وبين النبي، وما دخل على قلوبهم من كلمات اللّه التي سمعوها منه.. وإذن فلتغلق هذه القلوب، ولتقم عليها حراسة قوية منهم.. {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ}.
فهذه قلوبنا التي رميتها بما رميتها به من سهام، قد وضعناها في أكنّة من إرادتنا المتحدية، بما أصابها من جراح.. وإن الزمن لكفيل بأن تلتئم معه جراحها!.
هذا أول ما ينبغى أن يكون من القوم، في دفع هذا الخطر الذي دهمهم.. وهذا هو أول ما يكون ممن يدهمه خطر يتهدد وجوده أو يتهدد الشيء الذي يحرص عليه.. إن همه الأول هو الدفاع عن هذا الذي يتهدده الخطر منه، سواء أكانت حياته، أو كان متاعه! حتى إذا استشعر النجاة من هذا الخطر، كان له بعد ذلك أن ينظر في المنافذ الأخرى التي يهبّ عليه الخطر منها، فيبدأ بالقريب منها أولا، ثم بالذي يليه، وهكذا.
ومن هنا كان نظرهم بعد هذا إلى أقرب شيء يجيء منه الخطر إلى قلوبهم، وهى آذانهم، فأحكموا إغلاقها، ووضعوا عليها سدّا يحول بين الكلمات، وبين النفاذ منها إلى القلوب: {وَفِي آذانِنا وَقْرٌ}.
ثم كان التدبير بعد هذا، أن يبعدوا بأنفسهم- وما معهم من آذان وقلوب- عن مواطن الخطر جملة.. {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ}.
فذلك هو الذي يقطع كل صلة بينهم وبين موطن الخطر..!
وقد جاء النظم القرآنى: {وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} بزيادة حرف الجر {من} ولم يجيء: {وبيننا وبينك حجاب} وذلك للمبالغة في أن ما بينهم وبين النبي قد سدّ بحجاب كامل، ملأ المسافة التي بينهم وبين النبي، فكل ما بينهم وبين النبي حجاب غليظ كثيف.. ولو جاء النظم القرآنى:
{وبيننا وبينك حجاب} لما أدّى هذا المعنى، ولكان مفهوم الحجاب هنا أنه مجرد ستر بينهم وبين النبي!.
واقرأ الآية مرة أخرى، وانظر إليها نظرة مجدّدة، على ضوء هذا الفهم الذي فهمناها عليه.. وإنك لتجد لتلك الآية في هذا الترتيب إعجازا من إعجاز القرآن الكريم، وآية من الآيات التي تشهد له، بأنه من تنزيل من حكيم حميد.
{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ}! فسبحان من هذا كلامه، وتلك آياته!.
وقوله تعالى: {فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ}.
لقد أمن القوم، أو هكذا خيّل إليهم أنهم قد أمنوا.. إذ قد فرّوا من وجه هذا النهار، ودفنوا رءوسهم في الرمال!.
{فاعمل} ما تشاء، واقرأ من قرآنك ما تقرأ.. فلن تجد لما تقرأ أذنا تسمع، أو قلبا يقع فيه شيء مما تقرأ {إننا عاملون}.
ولقد عملنا ما ترى، من إقامة هذه الحواجز بيننا وبينك.. فافعل ما شئت!.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}.
وما ذا يعمل النبي؟ إنه لا يملك شيئا لرفع هذه الحواجز التي أقاموها على أنفسهم، وإنه لن يستطيع أن يخرجهم من أجحارهم تلك التي دفنوا أنفسهم أحياء فيها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إشارة إلى خطأ ما يظنه المشركون في النبي، وأنه إنما يستعلى عليهم بما في يديه من هدى، وما يتلوه عليهم من آيات ربه.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- بشر مثلهم قبل كل شيء، وأن هذا الذي آتاه اللّه من فضله لن يخرجه عن بشريته.. إن الإنسان هو إنسان قبل كل شيء، وما يؤتاه من اللّه سبحانه، من بسطة في في الجسم، أو سعة في الرزق، أو روعة في الجمال والحسن، أو نفاذ في البصيرة والإدراك- لن يخرجه ذلك عن أن يكون إنسانا.. وفى هذا عزاء للناس الذين لم يكن لهم حظ موفور، من هذا الذي مع غيرهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها، إذ أنهم- لو عقلوا- لعلموا أنهم شركاء في هذا الذي يرون أنفسهم أنهم حرموا منه وهو البشرية.. إنه ملك الإنسانية كلها، يضاف إلى رصيدها، مما هو مرغوب فيه عندها.. كما أن ما في بعض الناس من نقص وعيب، هو مما يحسب على الإنسانية كلها، ومما تخفّ به موازينها.
وإذن، فإن الذي ينبغى أن يأخذ به الإنسان نفسه، ليكون عضوا في هذه الشركة العامة، هو أن يدخل فيها برصيد طيب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى يأخذ بمقدار ما يعطى.. وإلا كان معتديا ظالما.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو بشر مثلهم، وقد أكرمه اللّه بهذا الرزق السماوي العظيم، الذي بين يديه من كتاب اللّه، والذي يدعو إليه الناس جميعا، ليشاركوه فيه، وليأخذوا ما استطاعوا حمله منه.. وإن الشقي من حرم نفسه من هذا الغذاء الذي هو حياة الأرواح، وغذاء العقول والقلوب.
وقوله تعالى: {يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} هو صفة أخرى للنبى، إلى جانب صفته البشرية، وهو أنه رسول يوحى إليه من ربه، وأن موضوع هذا الوحى، هو تقرير وحدانية اللّه، وأنه لا إله إلا هو، وأن كل محامل الوحى هو تقرير هذه الحقيقة، وتأكيدها، والعمل في ظلها.
وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} هو تعقيب على هذه الحقيقة التي جاءت بها رسالة الرسول، ونزلت بها آيات اللّه، وحيا إليه من ربه.. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي اتجهوا إلى إلهكم الواحد دون أن تلتفتوا إلى وراء، أو يمين، أو شمال، نحو ما تعبدون من آلهة.. بل اجعلوا وجوهكم إلى اللّه وحده، واسعوا إليه في استقامة وجدّ {واستغفروه} لما كان منكم من ضلال عنه، وشرك به.
وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} وعيد للمشركين الذين يمسكون بشركهم، ولا يتحولون عنه إلى الإيمان باللّه وحده.. وهو معطوف على محذوف، تقديره: فإن استقمتم واستغفرتم ربكم، غفر لكم ونجاكم من عذابه، والويل للمشركين الذين لا يتحولون عن شركهم.
قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} هو وصف لهؤلاء المشركين، الذين تهددهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل، وسوء المصير.
وفى اختيار عدم إتيان المشركين الزكاة، وجعلها الصفة البارزة فيهم- ما يسأل عنه، وهو: كيف تكون الزكاة المعلم الأول للإيمان باللّه، حتى يكون عدم أدائها المعلم البارز من معالم المشركين؟ ثم كيف يكون هذا شأن الزكاة في هذه المرحلة من الدعوة، التي لم تكن الزكاة قد فرضت فيها على المسلمين، إذ أن السورة مكية، والآية مكية كذلك، والزكاة إنما فرضت في المدينة! فكيف هذا؟
والجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالزكاة، هو الزكاة المفروضة، وإنما المراد بها الإنفاق في سبيل اللّه، وفى وجوه الخير ابتغاء وجه اللّه.. فكل ما ينفق في سبيل اللّه وابتغاء وجه اللّه، هو زكاة، وطهرة للمنفق.
وثانيا: أن الزكاة بهذا المعنى لم تجئ صفة أصلية، وإنما جاءت حالا من أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة.. {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
فهذه الحال- وهى عدم إيمان المشركين بالآخرة- هي التي جعلتهم لا يؤتون الزكاة.. فلو أنهم كانوا يؤمنون بالآخرة، لأعدوا لها عدتها ولسخت أيديهم بالإنفاق في وجوه الخير، ليكون لهم من ذلك زادا ما يتزودون به لهذا اليوم.
وثالثا: أن الإتيان للزكاة، يشمل الإتيان لكل طيب، ولكل ما يتطهر به الإنسان، ويزكو، ولا طهر ولا زكاة، مع الشرك.. فيكون من المعاني التي يشير إليها قوله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} أي الذين لا يؤمنون باللّه.
ويكون {الإتيان} هنا بمعنى التسليم، وإعطاء الولاء للّه ولرسول اللّه.. ويروى عن ابن عباس في هذا: أنهم لا يقولون: لا إله إلا اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
هو في مقابل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}.
فإذا كان الويل للمشركين الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر فإن الثواب العظيم، والجزاء الكريم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون.. أي جزاء حسن، متصل لا ينقطع أبدا حيث جنات النعيم، هم، فيها خالدون.